أسرار اغتيال أول عالمة ذرة مصرية |
|
في صباح يوم الجمعة 15 أغسطس من عام 1952 لقيت فتاة مصرية، خمرية اللون، فرعونية التقاطيع- مصرعها في ولاية كاليفورنيا بأمريكا، في حادث سيارة غامض . |
وبعد أسبوعين .. |
هبطت طائرة أمريكية في مطار القاهرة، أسرعت تقف إلى جوار باطنها سيارة إسعاف، وفى صمت حمل بعض الرجال من باطن الطائرة تابوتاً حملته سيارة الإسعاف مسرعةً إلى منزل أسرة الفتاة التي روعها خبر مصرعها الغامض .. |
وتم وضع التابوت في نفس حجرة نوم الفتاة، الحجرة التي شهدت أيام شبابها، وكانت مهداً لأحلامها التي لم تتحقق كلها .. أطاح الحزن بصواب أسرة الفتاة القتيلة . |
أمها الثكلى على أن ترى جثمانها .. |
واضطر أفراد الأسرة لكسر التابوت الخشبى، ففوجئوا داخله بصندوق من الرصاص، وعندما فتحوه وجدوا صندوقاً آخر من الرصاص .. |
فتحوا الصندوق ووقفوا في ذهول وخشوع ينظرون إلى جثمان ابنتهم المصرية، خمرية اللون، فرعونية التقاطيع . |
كان المشهد مروعاً.. يهز أعتى القلوب . |
كانت ترقد مرتدية كامل ملابسها ، كأنها لاتزال على قيد الحياة، كأنها ذاهبة إلى حفل ساهر طويل، شعرها مصفف بطريقة جميلة، الساعة الذهبية تلمع في يدها . |
سوار آخر جميل يزين رقبتها .. |
نزعت الأم نفسها من أمام تابوت ابنتها.. جرجرت قدميها إلى خارج الحجرة .. |
قالت في ذهول المجانين لأولادها وبناتها: خشوا شوفوا أختكم .. زي العروسة . |
هل لقيت مصرعها.. قضاءً وقدرا .؟! |
هل اغتالوها ؟ |
ومن ؟ |
الأمريكان ؟ |
أم اليهود ؟ |
في قرية »سنبو الكبرى« مركز زفتي بمحافظة الغربية، ولدت سميرة موسى .. |
كانت البنت الرابعة في الترتيب بين إخوتها التسعة - سبع بنات وولدان - هم: هانم، وفتنة ، ووديعة، وسميرة، وأحمد، وعواطف، وفكرية، ومسرات، وماهر .. |
كان جدها لوالدها أول من تعلم في القرية، وكان أفندياً يرتدى الطربوش، وكان يعمل في مصلحة الأموال، أما والدها فكان مزارعاً ميسور الحال، والغريب أنه كان يتمنى أن تولد سميرة .. صبيا .! |
وبين دروب حواري قرية »سنبو الكبرى«، وتحت ظلال أشجار الجميز التي تحيط بترعها، نشأت سميرة موسى وترعرعت. كانت منذ البداية طفلة »غير عادية«، صحيح أنها كانت مثل كل الصغار تميل إلى اللعب كثيراً، لكنها ما إن أصبحت صبية صغيرة حتى بدأت تفضل العزلة والانزواء، ولم يكن أحد من أهل البيت المزدحم يسمع لها »حساً«، إذا تكلمت خرج صوتها أقرب إلى الهمس، وسرعان ما بدأت تحتل مكاناً مميزاً لدى والدها الذي لم يكن يرفض لها طلباً ! |
وظهر نبوغ سميرة موسى مبكرا .. |
كانت هناك واقعة شهيرة تعتبر »محطة انطلاقها الأولى«، كانت لاتزال تلميذة صغيرة عندما مات الزعيم سعد زغلول، وطلبوا منها في المدرسة أن تقرأ نعيه المنشور في الجريدة، فقرأت سميرة النعي دون أن تخطئ في كلمة واحدة، وأعجب المدرسون بها، فطلبوا منها أن تقرأ النعي مرة أخرى.. |
وكانت المفاجأة التي أذهلتهم .. |
وضعت التلميذة الصغيرة سميرة موسى الجريدة جانباً، وبدأت تتلو النعي من الذاكرة بعد أن حفظته من مجرد القراءة الأولى .. وأيضاً لم تخطئ في كلمة واحدة .. وأسرع مدرسها حسين البكري يقول لوالدها: دى بنت عبقرية .. ولازم تهتم بها .. وأدرك المزارع البسيط بفطرته .. عبقرية ابنته .. قبل أن تدركها هى ! |
وباع قطعة من أرضه، ورحل إلى القاهرة، حيث اشترى لوكاندة في حي الحسين، وأخرى في العتبة هي »لوكاندة وادي النيل« التي لا تزال قائمة يديرها شقيقها الصغير .. وبدأت سميرة موسى رحلتها مع العلم .. والحياة .. |
النبوغ لا يدق الأبواب .. وإنما هي الأبواب التي تنفتح تقديراً واحتراماً له ! |
وعندما التحقت سميرة موسى بمدرسة البنات الأشراف الأهلية التي كانت تشرف عليها الرائدة نبوية موسى .. كانت سميرة تتمنى أن تدرس العلوم ، ولم يكن بالمدرسة قسم للعلم، ففتحت لها نبوية موسى هذا القسم خصيصاً ، بل وأقامت لها معهداً. وتخرجت سميرة موسى لتكون الأولى على القطر المصري، والتحقت بكلية العلوم، وتخرجت الأولى أيضاً على الكلية، وكان من المفروض أن تصبح معيدة، لكن الجامعة رفضت .. |
لماذا ؟ |
لأنها .. بنت ! |
وكانت مناصب التدريس وقتها مقصورة على الرجال، لكن أستاذها الدكتور مصطفى مشرفه- الذي كان صديقاً لعالم الذرة أينشتاين - هدد بالاستقالة إذا لم تقبلها الجامعة كمعيدة ! |
وقد كان للدكتور مصطفى مشرفة دور مهم في حياة سميرة موسى واتجاهها لأن تكون أول عالمة ذرة مصرية ! |
جادة في دراستها .. تعشق العلم والقراءة .. |
كانت تذاكر وتظل تقرأ طوال الليل .. حتى يغلبها النوم وتسقط الأوراق على صدرها.. ويدخل عليها والدها في هدوء ويجمع الأوراق وينصرف على أطراف أصابعه ويغلق باب الغرفة بحذر، لتنام ابنته العبقرية الساعات القليلة التي تبقت مـن الليل ! |
وسافرت سميرة موسى إلى لندن عام 1947 لتحصل على رسالة الدكتوراه .. |
وكان المفروض أن تحصل عليها في ثلاث سنوات، لكنها حصلت عليها في 17 شهراً فقط ، وكتب جانيس هارديسون المسجل الأكاديمي لكلية بيدفورد الإنجليزية في شهادة الدكتوراه: "إن جامعة لندن تكرم سميرة موسى بمناسبة انتهائها من دراستها بالجامعة ونجاحها في امتحانها .. وفى هذا اليوم نعترف بحصولها على درجة الدكتوراه في الفلسفة في كلية العلوم مجال الفيزياء النظرية " |
وأصبحت سميرة موسى دكتورة وأستاذة في الجامعة .. |
أنها أصبحت من نخبة العلماء النجوم الذين تتابع الصحف والمجلات أخبارهم، إلا أنها كانت تعيش حياتها كإنسانة عادية للغاية، كانت تعشق العزف على العود والكمان والفلوت .. وعلمت نفسها كيف تجيد العزف على هذه الآلات الموسيقية، وكانت مغرمة بمشاهدة الأفلام الأمريكية ومتابعة الجديد منها الذي يصل إلى دور العرض بالقاهرة .. |
ورغم أنها كانت تهوى الثياب الأنيقة وتختارها من أشهر محلات وسط القاهرة، إلا أنها في أحد الأيام كادت أن تتخلف عن الذهاب إلى قصر عابدين لحضور حفل أقامه الملك فاروق لتكريم الأوائل، لأنها لم تجد في خزانة ثيابها ما يناسب هذا الحفل.. لكنها سهرت طوال الليل مع شقيقتها فكرية التي كانت تدرس الفنون الطرزية، حتى انتهت من صنع ثوب مناسب لها ..وذهبت إلى حفل الملك ! |
قلائل هم الرجال .. الذين دخلوا عقل سميرة موسى .. لكن .. ولا رجل واحد دخل قلبها ! أساتذتها دخلوا عقلها بتوجيهاتهم وتشجيعهم .. أما قلبها .. فقد كان ممنوعاً على الرجال ! |
تقول أختها فكرية موسى : لم تكن لأختي سميرة حياة عاطفية على الإطلاق، وعندما كنت أحفزها على الزواج لكي نلحق بها .. كانت تقول لى: اذهبي أنت وتزوجي .. مالك بى ؟ |
تؤكد شقيقتها الكبرى »هانم« أن عدداً من الرجال المحترمين تقدموا للزواج منها، لكنها رفضتهم جميعا . |
وكانت تقول: أنا تزوجت العلم، ولا يوجد رجل ينافس العلم ! |
كانت تقول ذلك .. لكن ! |
كان في أعماق هذه العالمة العبقرية أشياء أخرى غير نظريات الذرة والمعادلات العلمية العويصة. كانت في أعماقها »امرأة نادرة« من نوع خاص .. |
هناك أوراق بخط يدها تقول فيها : |
" تمنيت أن أكون ملكة جمال، يزين هالتي تاج من نور وأحكم على عرش القلوب ." |
" تمنيت أن أكون أميرة جميلة .. أو زهرة عطرة .. وتمنيت أن أكون أديبة مشهورة .. فهل تتحقق الأماني وتُجاب الرغائب؟ وهل إذا تحققت تهدأ النفس الثائرة المتمردة وتقنع ؟ " |
" لا لن تهدأ .. بل ستتجدد الأماني وتزيد .. فأتمنى وأتمنى .. ولن تغنيني الأماني شيئا ! " |
وصلت سميرة موسى في عام 1950 إلى أوج نجاحها وشهرتها.. وصفتها مجلة »آخر ساعة« في ذلك الوقت بـ »مس كوري المصرية« وكانت قد خصصت معظم وقتها لرعاية مرضى السرطان وعلاج الفقراء بالذرة في مستشفى قصر العينى .. |
وقال زملاؤها: ما تفعله سميرة موسى في قصر العيني من إخلاص وما تبذله بتفانٍ .. هو عمل الممرضات ! |
ولم تكن الدكتوراه هي نهاية المطاف بالنسبة لها .. |
فسافرت إلى أمريكا في منحة علمية .. والمفروض أن يزور دارسو هذه المنحة المراكز العلمية في أكثر من ولاية.. وتحدد لسميرة موسى أن تزور أحد هذه المراكز . |
كان المفروض أن تسافر بالطائرة، لكن في ليلة سفرها تقرر أن تسافر بالسيارة، وكانوا قد عرضوا عليها الجنسية الأمريكية لكنها رفضت، وفى صباح يوم الجمعة 15 أغسطس 1952 انطلقت في رحلتها داخل سيارة يقودها سائق هندي .. وفى الطريق وقعت الكارثة ! |
اصطدمت سيارة لوري بسيارتها من الخلف ودفعتها لتسقط في هاوية جبل . |
ولقيت سميرة موسى مصرعها .. واختفى السائق تماما ! |
وفيما بعد اكتشفوا أن .. اسمه مستعار ! |
لا توجد تقارير رسمية تؤكد مسألة اغتيال سميرة موسى، لكن الملابسات كلها »مريبة«، فمن المؤكد أيضاً أنه بعد وصول سميرة موسى إلى أمريكا - ولابد أن شهرتها قد سبقتها - جعلت الأمريكان -كعادتهم - يعدون تقارير عن تركيبتها ومواصفاتها النفسية، بعد أن وضعوها تحت الاختبارات النفسية لتحديد مواطن الضعف والقوة فيها. وهذه التقارير بالمناسبة أفرجت عنها جريدة »نيو يوركر« الأمريكية مؤخراً للفئة C من الكتاب والصحفيين الأمريكيين. وقد حصلت على نسخة منها، وتؤكد هذه التقارير أن : »سميرة موسى يمكن أن تكون عالمة أمريكية وأن تحصل على الجنسية الأمريكية .. وبسرعة« ! وقد أرسلت هي نفسها رسالة إلى والدها تقول فيها إنهم عرضوا عليها الجنسية الأمريكية، لكنها رفضت وقالت له: " لا أجد في أمريكا شيئاً يجعلني أبقى فيها، سوى المعامل المتقدمة التي تتيح لي دراسة علم المستقبل.. الذرة ! " |
وأيضاً مما يؤكد تفسير اغتيالها أنه تقرر في اللحظات الأخيرة أن تسافر بالسيارة بدلاً من الطائرة، وأيضاً حسب الرواية الرسمية فإن سيارتها سقطت في هاوية الجبل، فكيف إذن يكون تقرير السفارة الأمريكية أن جثمانها قد سلم لأهلها وهى في كامل شكلها. كيف لم يتشوه الجثمان من السقوط من هذا الارتفاع المخيف وتحطم السيارة تماما ؟ |
شىء آخر .. لابد أن نسأل: هل صحيح أن الأمريكان واليهود - في ذلك الوقت - كانوا خائفين من البرنامج النووي المصري، حتى قبل أن تقوم وتعلن دولة إسرائيل رسمياً ؟ المؤكد أنه في ذلك الوقت بعد أن باح العالم روزنبرج وزوجته بسر القنبلة الذرية للاتحاد السوفيتي أصبح محتماً على أمريكا أن تخطط للسيطرة على علماء الذرة في أي مكان طبعاً وليس في أمريكا وحدها .. وعموماً فإنه يمكن -أيضاً - تفسير مصرع سميرة موسى على أنه قضاء وقدر.. لكن من قال إن حوادث الاغتيال يتم الاعتراف بها ؟! إسرائيل نفسها لم تعترف باغتيالها لعالم الذرة المصري د. يحيى المشد إلا بعد فترة طويلة، ظلت لسنوات تقرر أنه لقي مصرعه لأسباب عاطفية |