الجينات وحرية الاختيار
دكتور دسوقي عبد الحليم
أستاذ التكنولوجيا الحيوية بمدينة مبارك العلمية
يسود اعتقاد كبير بين العلماء والمفكرين والفلاسفة بأننا يجب أن نتقبل الشخصية كما هي، فشخصية الإنسان ليست سوى ما هي عليه وسيبقى هكذا إلى أن يموت، فالإنسان يحتفظ بصفاته الأساسية منذ الطفولة مثل العصبية والمخاطرة والمرونة والرقة والقسوة والكفر والإيمان وشرب الخمر والمخدرات وغير ذلك من السلوكيات التي قد نستحسن نحن بعضها ونستهجن البعض الآخر. وقد ربط الكثير من العلماء بين هذه الأفعال والأنماط السلوكية والتصرفات وبين الجينات المرصوصة على الجينوم (Genome) الخاص بالإنسان، بحيث يشعر الفرد منا بأن ما يكرهه من أفعال تصدر عن نفسه وذاته ما هو إلا قدر محتوم ليس منه فكاك ولا مهرب، فشارب الخمر سيظل شارباً للخمر أبد الدهر والعاق لوالديه سيظل هكذا ولن يتغير، والسبب أن ذلك مكتوب على الجينوم الوراثي. الحقيقة إن هذا الفرض العلمي يتعارض مع ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة تعارضاً تاماً، حيث يقول الله تبارك وتعالى عن النفس البشرية (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) الشمس 7-10، والمعنى هنا كما يقول المفسرون: أي عرفها طريق الفجور والتقوى، وما تميز به بين رشدها وضلالها، قال ابن عباس: بين لها الخير والشر، والطاعة والمعصية، وعرَّفَها ما تأتي وما تتقى (تفسير ابن كثير)، ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى قوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النجدين) البلد10، وقوله تبارك تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الإنسان.
3. إذن وبناءاً على هذه الآيات الكريمات فإن للإنسان في أي وقت من عمره القدرة على الاختيار بين الخير والشر، بين ما ينفع وما يضر، وعليه فالقول بأن ما هو مكتوب على الجينات قدراً محتوماً لا مفر منه إنما هو مجرد فرضية خاطئة ليست لها بالعلم صلة، وتأكيدا لذلك وجب علينا أن نستجلي الحقيقة بدون تعصب وبتجرد علمي وبدون تحيز، ونرى ماذا قالت الأبحاث العلمية الحديثة التي درست العلاقة بين الجينات الوراثية والسلوك والتصرفات الإنسانية عامةً. فمع بزوغ نجم ثورة الهندسة الوراثية والبيولوجيا الجزيئية الحديثة وظهور الجينوم البشري وفك رموز وشفرات جينومات عدد كبير من الكائنات الحية الأخرى، طرح العلماء سؤالاً في غاية الأهمية، هل للجينات علاقة بالسلوك والتصرفات وردود الأفعال البشرية!؟. والسلوك هنا يعني ردود أفعال الإنسان الداخلية أو الخارجية التي تصدر عنه ردا علي منبهات أو مثيرات داخلية أو خارجية. ومن خلال دراسات عديدة أجريت خلال هذا العقد منذ عام 2000 وحتى الآن، تأكد العلماء أن الجينات تدخل بشكل مباشر في تشكيل الحالة النفسية والسلوكية في العديد من الكائنات الحية مثل الإنسان وفئران التجارب وحشرة ذبابة الفاكهة (الدروسوفلا) وغيرها من الكائنات المعملية. وكان السؤال الثاني الذي طرحه العلماء حول هذا الموضوع، كم هو العدد اللازم من الجينات لإعطاء السلوك الكامل أو الشخصية الكاملة للكائن الحي؟. ونظراً لسهولة العمل المعملي والتجريبي على فئران التجارب وصعوبة إن لم يكن استحالة إجراء مثل هذه التجارب على الإنسان، فقد اختيرت الفئران لتكون كلمة السر وحجر الزاوية في الإجابة على هذا التساؤل. وبتحليل الجينوم الكلي لهذه الفئران وجد العلماء أنها تحتوي على 24 ألف جين، كل جين من هذه الجينات له وظيفة محددة، فمنها ما يشغل أجهزة الجسم المختلفة مثل القلب والرئتين والكبد والمعدة وغيرها مما لا حصر له من العمليات البيوكيمائية، وهذه ليس للكائن الحي القدرة على تشغيلها أو إيقافها فهي تعمل رغماً عنه وبدون إرادة منه وسميت بالجينات التكوينية (Constitutive genes)، وجينات أخرى تعمل فقط عند الحاجة وحسب الطلب وتتأثر تأثراً تاماً بالبيئة المحيطة وسميت بالجينات الاختيارية (Facultative genes).
وعندما بحث العلماء عن الجينات التي تشكل السلوك بين هذا الكم الكبير من الجينات، وجدوا أنها من النوع الثاني أي الجينات الاختيارية التي تعمل فقط عند وجود محفز أو مؤثر بيئي خارجي، وكانت المفاجأة أنه وبناءاً على المعادلات الرياضية التي وضعوها للحساب أن وجدوا أن عدد الجينات اللازم لإتمام العمليات والأنماط السلوكية في الفئران يحتاج بالتمام والكمال إلى 80 ألف جين أي ما يقارب أربعة أضعاف القدرة الاستيعابية لجينوم فأر التجارب. وعليه أوصوا بأنه: رغم أن للجينات تأثير مباشر على السلوك إلا انه ليس هناك علاقة خطية بين عدد الجينات الموجودة على الجينوم والسلوك والتصرفات. وأخضع الباحثون هذه المعضلة العلمية للدراسة، وتوصلوا أخيرا إلى أنه ليس هناك حاجة فعلية لعدد كبير من الجينات
- كما افترضت النظريات الرياضية الأولى -، حيث وجد أن الجين الواحد لا يعطي سلوكاً واحداً فقط بل أيضاً يشارك في إعطاء أنماط سلوكيه متنوعة ومختلفة وأطلقوا على هذه الجينات اسم "الجينات متعددة الوظائف" (multifunctional genes)، وبناءاً على ذلك أصبح من السهل القول: أن عدد قليل جداً من الجينات يمكن أن يعطي تنوع سلوكي هائل ومتعدد. وفي دراسة ظهرت نتائجها عام 2006 أجريت على عدد كبير من الناس ولعقود طويلة لتحديد الدور الذي تلعبه الجينات في تشكيل الشخصية الإنسانية، وجد العلماء أنه مع التقدم في السن من 20 إلى 40 فإن الشخصية تميل إلى أن تصبح أكثر وعيا من الناحية العقلية وأكثر استقرارا من الناحية العاطفية، أما بعد سن أل 40 ، فإنها تميل إلى أن تصبح أقل تقبلاً للتجارب والأفكار الجديدة.
كل هذه الصفات قام العلماء بربطها بالجينات والمدهش ما أشارت إليه الدراسة بأن تأثير الجينات على الشخصية يتراجع مع التقدم في السن وأن البيئة تلعب دورا أكبر من الجينات في تشكيل الشخصية في هذه السن، في إشارة للخبرات المتراكمة للشخص، وصدق الله العظيم حين قال عن هذه المرحلة العمرية الحاسمة في عمر أي إنسان (--- حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الأحقاف 15.
وفي دراسة أخرى حديثة يقول الباحث "كارول دويك" أستاذ علم النفس بجامعة ستانفورد الأمريكية: قد تؤثر خبرة بسيطة جداً على الشخصية بحيث يكون لها آثار متلاحقة كنا نظن أنها مستقرة وثابتة بما في ذلك الانبساط، والانفتاح على تجربة جديدة والصمود، وجميعها يعتقد أنها وراثية. وتلا ذلك العديد والعديد من الأبحاث العلمية التي تشير إلى أنه بعيدا عن كون التصرفات والسلوكيات البشرية مجرد مشفرات وراثية في الجينات، فإن الكثير من الأنماط الشخصية تتميز بالمرونة والدينامكية والتغيير المستمر على مدى الحياة وذلك من خلال الخبرات المتراكمة للشخص نفسه. ويقول الدكتورة "دويك" في عدد ديسمبر عام 2008 من دورية (Current Directions in Psychological Science) أنه وجد أن سمات مثل كيفية التعامل، وكيف تتصور نفسك والآخرين، وكيف تتصرف في المواقف اليومية والتي هي بطبعها وراثية ومرتبطة بالجينات إلا أنها قابلة للتغير.
ووجد في دراسته أن أسرة ولدت لهم طفلة خجولة وراثياً وتخاف من المشاركة مع الأطفال الأخريين، ولكن بإتباع والديها برنامجا علمياً صارماً لإشراكها ودمجها في المجتمع لوحظ أنها تخلصت من هذا الخجل تماما عند سن 12 سنة. كما أثبتت التجارب أيضاً أن المعلومات الاجتماعية لها القدرة على تعديل التعبير الجيني داخل المخ بحيث تعدل الطريقة التي يتصرف بها الحيوان، وخلص العلماء إلى أن DNA أو الجينوم أو قل الجينات المتراصة عليه ليست قدراً غير قابل للتغيير ولكن على العكس من ذلك فالجينات تتأثر بخبرات الحياة بشكل كبير ومذهل. ويقول "دويك" في مقالته: ومن المفارقات، فإن الاعتقاد بان الشخصية لا يمكن أن تتغير هو اعتقاد خاطئ، فإذا كنت تعتقد أن ذكائك ثابت فهذا أيضاً أثبت العلماء خطئه فقد وجد أن الذكاء يتأثر سلباً وإيجابا بمدى التحديات التي تواجهك وقدرتك على التعاطي معها، وأوصى "دويك" بأنك إذا غيرت اعتقادك عن نفسك للأفضل فإن جيناتك ستساعدك على ذلك والعكس صحيح.
وفي السنوات الخمس الماضية أصبح هناك اعترافا متزايدا بأن الخبرات المتراكمة قد تبطل عمل بعض الجينات وتنشط البعض الأخر. وخلاصة القول إن القول بأن شخصية الإنسان وتكوينه وسلوكه وتصرفاته قدراً محتوماً، أثبت علم البيولوجيا الجزيئية (Molecular Biology) الحديثة خطأه، وأن مجرد خبرات حياتية بسيطة أو معلومات اجتماعية أو كلمة تسمعها أو موعظة أو نصيحة تتلقها قد تغير تعبيرك الجيني بأكمله فيظهر لك تصرفات وردود أفعال مغايرة تماما لما تعتقد انه ثابت عندك لا يمكن المساس به، وسبحان الخالق الذي أعطاك نوعين من الجينات نوع تكويني يضمن لك حياتك ويحفظ بقائك لا دخل لك في تشغيله ولا يمكنك إيقافه إلا بقتل نفسك، ونوع آخر اختياري لك مطلق الحرية في تشغيله أو إيقافه، ويفتح ويقفل تبعاً للمؤثرات البيئية المحيطة.
ولنا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأكبر على التغير الجذري في الشخصية الإنسانية من النقيض إلى النقيض، من الشر المحض إلى الخير المحض، من الكفر إلى الإيمان، فها هو عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، بمجرد سماعه لآيات كريمات من سورة طه تحول من عدو للإسلام إلى أكبر مدافع عنه، تحول من القسوة والشدة إلى الرقة والرأفة، ومن الظلم والجور إلى العدل والإحسان.
وسيدنا خالد ابن الوليد وسيدنا عمرو ابن العاص رضي الله عنهم أجمعين تحولوا من رافعي السيف للقضاء على الإسلام إلى رافعي راية الإسلام لكل العالم، والأمثلة على ذلك الكثير والكثير في كل الأماكن والعصور، والقول الفصل إن الجينات ليست قدراً أبداً، وإذا كانت قدراَ لم يكن الله تبارك وتعالى ليحاسبنا على أعمالنا فيجزينا على الخير جنة ويعاقبنا على الشر بالنار، فالإنسان بين الخير والشر مخير فيما يفعل محاسب على ما يختار.
ترسل تعليقاتكم على المقال على الايميل التالي:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] المراجع:
1- القرآن العظيم 2- تفسير ابن كثير 3- Ethan Watters (2006): DNA Is Not Destiny: The new science of epigenetic rewrites the rules of disease, heredity, and identity. Discover magazine (http://discovermagazine.com/2006/nov/cover) 4- Pierre L. Roubertoux and Michèle Carlier (2007): From DNA to mind The decline of causality as a general rule for living matter. EMBO reports VOL 8: pages 7-11. 5- Carol S. Dweck (2008): Can Personality Be Changed? The Role of Beliefs in Personality and Change. Current Directions in Psychological Science, December 2007, p 391-394.