ما قبل حريق القاهرة
وقع مصطفى النحاس باشا معاهدة الصداقة و التحالف بين مصر و بريطانيا عام 1936 , حيث حددت المعاهدة انسحاب القوات البريطانية من أراضي مصر كلها وتمركزها في منطقة قناة السويس وحدها , و في المقابل فرضت على مصر عدة التزامات إذا تعرضت تجاه بريطانيا إذا تعرض القنال للخطر .
قامت الحرب العالمية الثانية و أصبح روميل ثعلب الصحراء على أبواب مصر , فتم تفعيل شروط المعاهدة التي فرضت على مصر أعباء باهظة أثناء الحرب , و قد وعدت بريطانيا مصطفى النحاس بالجلاء الكامل عن مصر بعد الحرب مكافأة لها على الإلتزام بتعهداتها .
انتهت الحرب و تلكأت بريطانيا كالعادة في الإنسحاب من القناة , و قامت حرب فلسطين فاضطر المصريون لتأجيل مطالبهم للإنجليز بالإنسحاب لحين نهاية الحرب .
انتهت الحرب بكارثة عسكرية للجيش المصري , و زاد التوتر السياسي في مصر فاضطر الملك فاروق للدعوة لانتخابات برلمانية اكتسحها حزب الوفد , و تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزراء مرة أخرى , و حاول التفاوض مع الانجليز في البداية لكنهم رفضوا الانسحاب من القناة .
فأعلن مصطفى النحاس يوم 8 أكتوبر 1951 إلغاء معاهدة 1936 , و قال ( من أجل مصر وقعتها و من أجل مصر ألغيها ) , و أعلن أن وجود القوات البريطانية في منطقة القناة أصبح غير شرعي و أن الحكومة المصرية لم تعد مسئؤولة عن حمايتهم , و أعلن عن دعم الحكومة للفدائيين في منطقة القناة , و بذلك اندلعت الحرب لتحرير منطقة القناة ضد الانجليز ( انتهت بتوقيع معاهدة الجلاء عام 1954 ) .
بدأ المسلحون من الضباط الأحرار و الإخوان و حركة حديتو (الشيوعيين) و الحزب الوطني و حزب مصر الفتاة شن حرب عصابات ضد الإنجليز في منطقة القناة مدعومين من الحكومة المصرية , وكانت الخسائر البريطانية نتيجة العمليات الفدائية فادحة، خاصة في الفترة الأولى، وكذلك فإن انسحاب العمال المصريين من العمل في معسكرات الإنجليز أدى إلى وضع القوات البريطانية في منطقة القناة في حرج شديد . و حينما أعلنت الحكومة عن فتح مكاتب لتسجيل أسماء عمال المعسكرات الراغبين في ترك عملهم مساهمة في الكفاح الوطني سجل 90000 عاملاً أسماءهم في الفترة من 16 أكتوبر 1951 وحتى 30 نوفمبر 1951.
كان رد الإنجليز عنيفا للغاية فقاموا بإعادة مدن القناة , و في صباح يوم الجمعة 25 يناير 1952 استدعى القائد البريطاني بمنطقة القناة البريجادير أكسهام ضابط الإتصال المصري , وسلمه إنذارًا بأن تسلم قوات البوليس المصرية بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية , و رفضت المحافظة الإنذار البريطاني و أبلغته إلى وزير الداخلية فؤاد سراج الدين الذي أقر موقفها , و طلب منها الصمود و عدم الإستسلام , فقام الإنجليز بإقتحام مدينة الإسماعيلية , و حاصرت الدبابات و المصفحات البريطانية مبنى المحافظة بسبعة آلاف جندي بريطاني مزودين بالأسلحة ومدافع الميدان , بينما كان عدد الجنود المصريين المحاصرين لا يزيدون على 800 في الثكنات و 80 في المحافظة لايحملون غير البنادق . و استخدم البريطانيون كل ما معهم من الأسلحة في قصف مبنى المحافظة , و قاوم الجنود المصريون حتى نفدت آخر طلقة معهم بعد ساعتين من القتال , وسقط منهم خمسون شهيدًا وأصيب نحو ثمانين آخرين و تم أسر الآخرين , و قد أدى القائد الإنجليزي التحية العسكرية لهم تقديرا لصمودهم .
حريق القاهرة
و في اليوم التالي 26 يناير 1952 انتشرت أخبار الحادثة في القاهرة , و استقبل المصريون تلك الأنباء بالغضب و السخط , و خرج الطلاب الغاضبون من الجامعات للمظاهرات و انضم لهم رجال الشرطة الغاضبين مما حدث لزملائهم في الإسماعيلية و في أثناء ذلك اندلع حريق القاهرة .
حريق القاهرة هو حريق كبير اندلع في 26 يناير 1952 في عدة منشأت في مدينة القاهرة عاصمة مصر , في خلال ساعات قلائل التهمت النار نحو 700 محل وسينما و كازينو وفندق و مكتب و نادي في شوارع و ميادين وسط المدينة .
ففي الفترة مابين الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا والساعة الحادية عشرة مساءً التهمت النار نحو 300 محل بينها أكبر وأشهر المحلات التجارية في مصر مثل شيكوريل و عمر أفندي و صالون فيردي , و 30 مكتبًا لشركات كبرى , و 117 مكتب أعمال وشققا سكنية , و 13 فندقًا كبيرًا منها : شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا , و 40 دار سينما بينها ريفولي و راديو و مترو و ديانا و ميامي , و 8 محلات و معارض كبرى للسيارات , و 10 متاجر للسلاح , و 73 مقهى ومطعمًا و صالة منها جروبي و الأمريكين , و 92 حانة , و 16 ناديًا , و قد أسفرت حوادث ذلك اليوم عن مقتل 26 شخصًا , و بلغ عدد المصابين بالحروق و الكسور 552 شخصًا , كما أدت إلى تشريد عدة آلاف من العاملين في المنشآت التي احترقت
و قد أجمعت المصادر الرسمية و شهود العيان على أن الحادث كان مدبرًا و أن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت على مستوى عالي من التدريب و المهارة , فقد اتضح أنهم كانوا على معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق , كما أن اختيار التوقيت يعد دليلاً آخر على مدى دقة التنظيم و التخطيط لتلك العمليات , فقد اختارت هذه العناصر بعد ظهر يوم السبت حيث تكون المكاتب والمحلات الكبرى مغلقة بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع , و تكون دور السينما مغلقة بعد الحفلة الصباحية .
قرر مصطفى النحاس مواجهة الموقف بإعلان الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد , و وقف الدراسة في المدارس و الجامعات إلى أجل غير مسمى , و أعلن نفسه حاكمًا عسكريًا عامًا في نفس الليلة , فأصدر قرارًا بمنع التجول في القاهرة والجيزة من السادسة مساءً حتى السادسة صباحًا , وأصدر أمرًا عسكريًا بمنع التجمهر, واعتبار كل تجمع مؤلف من خمسة أشخاص أو أكثر مهددًا للسلم والنظام العام يعاقب من يشترك فيه بالحبس .
ما بعد حريق القاهرة
قام الملك فاروق بإقالة رئيس الوزراء مصطفى النحاس بسبب ما اعتبره عجزا عن السيطرة على الأوضاع في البلاد , فهدأت الحرب قليلا مع الإنجليز لكن إزداد التوتر و السخط السياسي في البلاد حتى قام الضباط الأحرار بثورة يوليو 1952 , فاشتعلت الحرب مرة أخرى ضد الإنجليز و كانت هذه المرة بتخطيط من رجال المخابرات المصرية بقيادة زكريا محي الدين , و اضطر الإنجليز في النهاية لتوقيع معاهدة الجلاء من مصر عام 1954 , و خرج آخر جندي انجليزي من مصر في 18 يونيو 1956 ( عيد الجلاء ) .
و قد فتحت الثورة تحقيقا في حريق القاهرة و لم يتم التوصل حتى الآن للفاعل الحقيقي .
و يبقى السؤال الأزلي
من أحرق القاهرة ؟؟؟