لقد انقطعت الصلة انقطاعا تاما بين المصريين, مسيحيين ومسلمين, وبين أسلافهم من المصريين القدماء, وكان هذا في مقدمة أسباب جعل فهمهم عسيرا لتاريخ حضارة مصر القديمة.
وكما يسجل وبأسي حسين فوزي في سندباد مصري فقد صارت هوة فكرية عميقة تفصل بين حاضرنا وماضينا البعيد, ويوضح أن ما يعنيه بفهم تاريخ مصر, ليس مجرد الإدراك العقلي له, وإنما الإحساس بذلك التاريخ إحساسا يحرك المشاعر, ويوقظ القومية, ويصل ما انقطع من الروح المصرية! وبكلمات أخري يرصد السندباد المصري واحدا من أهم أسباب ضعف مشاعر الولاء والانتماء, وهو الجهل بتاريخ الوطن, خاصة إن كان تاريخا جديرا بالفخر, شأن تاريخ مصر رائدة الحضارة وفجر الضمير, والحاضرة الفاعلة في محيطها الواسع طوال تاريخ الإنسانية المكتوب!
وفي تأريخه لإنقطاع صلة المصريين بتاريخهم العريق يشير حسين فوزي الي أن دخول المصريين في المسيحية لم ينته فقط إلي فقد أسرار الكتابة الهيروغليفية والهيراطيقية والديموطيقية, بل إلي فقد معالم التاريخ المصري. وإذا كانت اللغة المصرية بقيت لغة المخاطبة بين المصريين حتي بعد الفتح العربي بزمان طويل, فإن كتابتها بحروف يونانية وامتزاجها بغير قليل من الألفاظ اليونانية وبخاصة ما يستعمل منها في طقوس الكنيسة وفي القضاء والإدارة, قطع ما بينها وبين اللغة القديمة قطيعة نهائية. بل وأصبح من الخطر علي المصريين, وطلاب العلم علي وجه خاص, أن يضبطوا وفي حيازتهم برديات قديمة. ولقد اكتشف طلبة ذلك الزمان أن زميلا مصريا لهم يخبئ لفافات بردية, ولم يتركوا زميلهم الشاب المصري حتي أحرق أمامهم بردياته. ويقول ساويرس, الذي يحكي هذه الحكاية:' لقد أشفقنا عليه, لأننا مسيحيون نخاف الرب'. ويورد يوحنا' فم الذهب' قصة مماثلة شهد وقائعها في شبابه: كبس الشرطة رجلا يخبئ برديات تحتوي علي أسرار السحر, ومع أنه تمكن من إلقائها في النهر, فقد قبض عليه, وحوكم, وأعدم!
وهكذا, فان التحول إلي المسيحية هو الذي قضي علي مصر القديمة, عقيدة وقلما وتاريخا وآثارا, ولم يفعل المصريون المسلمون أكثر من الإجهاز علي مصر القديمة ومعالمها, ثم مطاردة لغة المصريين القديمة, حتي جاء زمان أضحي فيه رجال الدين المسيحي لا يكادون فيه يعرفون من هذه اللغة إلا القليل, يرددونه في بيوت عبادتهم. ويسجل حسين فوزي أنه إذا كان أجدادنا من الأقباط قد حاولوا الإبقاء علي لغة المصريين القديمة فلم يكن ذلك ليعيدوها لغة تخاطب, وإنما حرصا علي الطقوس وحفاظا للكتاب المقدس في ترجمته القبطية القديمة. ثم كان تعريب مصر, الذي وصل الي أن صارت اللغة العربية وسيلة لتعليم اللغة القبطية, كما يظهر من الكتب التي ألفها لهذا الغرض من تبقي من المصريين علي عقيدته المسيحية من القرن السادس عشر وما بعده. ولم يكن أمر الفتح العربي مجرد ديانة اعتنقها المصريون رويدا, أو حتي مجرد لغة حلت شيئا فشيئا علي اللغة الرسمية السائدة في البلاد وهي اليونانية, ثم انتهت بالتغلب علي ما تبقي من اللغة القومية وهي المصرية القديمة.
والأمر ان هذا التحول الكامل في حياة مصر, الذي ترتب علي تعريب واعتناق غالبية المصريين تدريجيا للإسلام, قد فصلها فصلا تاما عن تاريخها السابق علي الفتح الإسلامي. ولكن يستدرك السندباد المصري هنا قائلا: إنه من الخطأ أن نحمل الإسلام واللغة العربية تبعة انفصال مصر عن تاريخها القديم, لأنها في الواقع كانت نبذت هذا التاريخ منذ تحولت من المعتقدات المصرية القديمة إلي المسيحية في القرون الأولي بعد الميلاد. كما أنه من الخطأ أن نحمل المسلمين المصريين تبعة تخريب المعابد الفرعونية, لأن المسئول الأول عن هذا التخريب كان المصريون المسيحيون. فما إن أصدر الإمبراطور تيودوسيوس أمره بإيقاف عبادات المعتقدات السابقة للمسيحية في أنحاء الإمبراطورية في سنة395 ميلادية, حتي راح المسيحيون المصريون يهدمون أو يخربون تلك المعابد, أو يحيلونها إلي كنائس وبيع. وإذا كان المسيحيون المصريون قد احتفظوا بلغتهم القديمة, فإنهم يتحملون تبعة ضياع مفتاح الكتابة المصرية الهيروغليفية والديموطيقية, حتي استغلق أمر النقوش المصرية علي العالم خمسة عشر قرنا! فلم يكن ثمة ما يدعو المسيحيين المصريين إلي الاحتفاظ بأسرار الكتابات القديمة وقد يسرت لهم الأحرف اليونانية كتابة لغتهم, التي عرفت منذ ذلك الوقت باسم اللغة القبطية. وليس معني ذلك أن المصريين بعد أن صاروا مسيحيين قد نبذوا كل شيء من تاريخهم السابق علي المسيحية- وهو أمر لا يقبل عقلا- فلا شك أنهم قد احتفظوا بجانب من تراثهم. فإن الشعب المصري المسيحي, الذي كان يمثل في غالبيته العظمي شعب مصر القديم, قد احتفظ بخصائصه, فضائله وعيوبه, علي طول الاحتلال المقدوني والروماني والبيزنطي.
ولكن لغة المصريين تأثرت دون شك باللغة اليونانية السائدة في الهيئات الرسمية, كما تأثرت طقوسه وألحانه الكنسية وطرزه المعمارية وزخرفه بالفن البيزنطي, بعد أن تحول الأباطرة الرومانيون إلي الديانة المسيحية. وحين اعتنق المصريون في غالبيتهم الإسلام, لم يحتفظوا بلغتهم القومية. وأما القلة التي تمسكت بالمسيحية فقد جاهدت في الإبقاء علي لغتها القبطية حية حتي قرون متأخرة. ولكن هذه اللغة انتهت, بعد القرن السادس عشر أو السابع عشر, إلي أن تكون لغة الطقوس الكنسية فحسب, بل وآلت إلي أن تكتب بحروف عربية. ويري الباحثون في علم الأجناس أن الجنس المصري لم يتأثر في غالبيته بالاختلاط مع القبائل العربية التي استوطنت مصر بعد الفتح العربي. وبرغم ما يقوله- وهو علي صواب- المؤرخ الألماني الكبير أدولف إرمان من' أن الشعب الذي سكن مصر القديمة يعيش حتي الآن في السكان الحاليين لهذه البلاد', يري السندباد المصري أن الحقيقة الواقعة, وما نراه من إحساس المصريين بعروبتهم, تدل علي انفصام كامل بين مصر الإسلامية وما سبقها.
والواقع أن المصري المسلم ينظر إلي الإسلام كأساس لحضارته, ويعتبر العصور السابقة علي الإسلام كأنها تاريخ شعب آخر انتهي أمره! ويعتبر اللغة العربية وما تحمله من ثقافة كأساس لحضارته. والنتيجة العملية لكل هذا, هي أن المصريين المسلمين يبدأون تاريخهم الحضاري, أو تاريخ مصر, بالفتح الإسلامي, بينما يبدأ المصريون المسيحيون تاريخهم الحضاري أو تاريخ مصر, بكرازة مرقس الرسول. ولكن ما إن تتيقظ مصر, وتفتح عيونها علي حضارة أوروبا, حتي تكتشف أمرا عجيبا, هي التي نسيت تاريخها القديم: ستكشف أن لتاريخها الذي نسيته, حسابا أكبر حساب, عند أصحاب الحضارة الأوروبية الحديثة. فلم يعد مقبولا أن يظل المصريون علي جهلهم بحضارة أجدادهم ويتنبه المصريون إلي هذه الحقيقة, وبخاصة عقب ثورة سنة1919.
وكانت هذه العودة الي الأصول منشأ المدرسة التي نادت بالفرعونية في عشرينيات القرن العشرين. ولم تكن تلك المدرسة تتنكر للعروبة. ويسجل سندباد مصر وبحق أنه ما عرف من أقطابها إلا كتابا في صدارة كتاب العربية, ومفكرين من أعرف الناس بتاريخهم الإسلامي. وإنما كانت مدرسة المناداة بالفرعونية حركة فكرية تحاول أن تمحو عن المصريين سبة وعارا; سبة جهلهم بتاريخهم العريق وعار ازدرائهم بأمجد حقبة من أحقاب هذا التاريخ. ولكننا, كما يأسي حسين فوزي, إذا كنا قد صححنا إلي حد ما موقفنا من الحضارة المصرية القديمة فإننا مازلنا, مع شديد الأسف, نتجاهل أو نتنكر لحقبة مهمة من حقبات التاريخ المصري وهي الحقبة المسيحية. وقد نكتفي منها بكلمة أو كلمتين عن اضطهادات دقلديانوس للمسيحيين في مصر, أي للمصريين جلهم آنذاك, ثم نقفز فجأة إلي مقدمات الفتح الإسلامي, في تجاهل صارخ لجدوي دراسة التاريخ.