الشرق والغرب

هو دكتوراه فى الكيمياء من جامعة أسيوط يحمل معه جلافة الريف وبساطتة وطيبته وهى خريجة أداب قسم سياحة تحمل معها حقيبة كريستيان ديور وننظر دائما غربا الى باريس لتاخذ عاداتها وقيمها وموضاتها .. بينما هو ينظر شرقا الى مكة معلق القلب والفؤاد بالكتب القديمة الصفراء والمدائح النبوية وحلقات الذكر فى سيدى أبى العباس

...وهو فى زيارة للسويد والنرويج مدعوا فى مؤتمر علمى وهو يصحب زوجته فى شهر عسل وهما يهبطان معا درجات الفندق الفخم فى ستكهولم .. وكلما مر بهم نزيل او ما يرأسه فى تحية فتضغط على ذراعه هامسة

- رد على التحية بإيماءة براسك أنت الاخر .. أترى كم هم مؤدبون .. تعلم .. اذا حييتم بتحية فردوا بأحسن منها .. أترى النظافة حولك كل شيىء حولك يلمع .. والأرض كأنها مراة .. المواعيد بالدقيقة والثانية .. الكلمة واحدة كأنها ميثاق .. لا غش ولا احتيال ولا مكر ولا تعقيد .. المرأة هنا حرة رشيدة مستقلة الإرادة تملك مفتاح عربتها ومفتاح شقتها وتخوض الحياة بلا خوف وتختار زوجها فى حرية .. وتعمل فى أى مهنة تحب .. حارسها ضميرها وحده .. يدها مع يد زوجها على دفة القيادة .. لا رياسة لأحد على الآخر ولا تحكم ولا استبداد .. لها نصف ما يملك اذا افترقا .. هكذا يضمنون للمرأة مستقبلها هنا ويؤمنونها من غوائل الدهر وطغيان الرجل .. دستور الزوجية احترام متبادل ومساواة فى الحقوق وثقة وحرية من كل طرف فى الآخر ولا تدخل ولا فضول .. ولا مساءلة ولا محاكمة .. اين كنت بالامس .. ولماذا جئت متاخرة .. تذكرة طائرتها فى جيبها وباسبورها فى حقيبتها .. تسافر الى أخر الدنيا وحدها .. حرة .. رشيدة مستقلة .. حارسها ضميرها وهذا يكفى .. انظر حولك وتعلم .. هذه هى القيم التى نحتاجها فى مصر .. لنصنع مصر جديدة وحضارة جديدة ومدنية جديدة هذه فرصتك لتغسل دماغك من أتربة الريف وتجدد شباب عقلك .. وتتشرب هذه القيم العصرية .. لا أحب أن أصادر على تفكيرك .. ولكنى أطالبك فقط بإعادة النظر وعدم الرفض الفورى لأى جديد لا أحبك أن تشيح بيدك وتقول كلمتك التقليدية .. هذه دولة الكفر .. فأين الكفر فيما ترى .. هل النظافة كفر .. هل الأمانة كفر .. هل الوفاء بالوعد كفر .. هل النظام كفر .. هل العلم المتقدم كفر .. هل
الصناعة كفر

ومرت امرأة بيدها كلب واومآت براسها فى تحية فرد صاحبنا بايماءة اخرى من راسه .. فضغطت صاحبتنا على يده فى حب وكانت وهى تلفت نظره الى
الكلب ..

- أترى أصابع الكوافير كيف صفقت شعر هذا الكلب .. والفيونكة الحمراء الجميلة .. هل العطف على الحيوان الضعيف كفر .. هل رايت المستشفى الأنيق أمام الفندق أنه مستشفى للكلاب ودار حضانة للكلاب تترك المرأة كلبها فى الصباح ثم تعود لتأخذه فى المساء

قال الرجل الريفى وهو يهز رأسه غير مصدق

- شيىء عجيب

- هل تعلم أن هناك اكثر من عشرين صنف لحوم معلبة للكلاب .. وان المحل يترك لك الحرية لتعرضها على كلبك ليجربها ويختار منها ما يحب

قال الرجل الريفى وهو ما زال يهز راسه

- شيىء عجيب .. اذا كانوا يصنعون هذا بالكلاب فماذا يصنعون لبنى آدم

- سوف ترى يا عزيزي .. لا تتعجل

- اذا كان هذا مقام الكلب فى الأسرة ..

فماذا يكون مقام الأسرة فى المجتمع

- سوف ترى بنفسك الليلة .. السنا مدعوين معا الى تلك العائلة السويدية

- نعم .. نعم .. لقد دعانا الدكتور كرافت على فنجان شاى لتحدثه عن مصر وعلى أخبار مصر .. فهو عالم فى المصريات كما تعرفين

- بل نريده أن يحدثنا هو عن بلاده وعن المعجزة الأوروبية

- نعم .. صدقت

وفى المساء كان الدكتور كرافت يعد يده ليصافحها فى حرارة وهو يقول:

- أخيرا جاءت مصر الينا .. أخيرا أصافح أحفاد حتشبسوت وإخناتون يدا بيد

قال الرجل الريفى

لا أظن فقد اختلطت الأسباب كثيرا فى بلادنا يا عزيزى الدكتور بقدر ما تعاقب عليها من فرس وروم ومقدونيين وهكسوس وعرب وإنجليز وفرنسيين .. لا اظنك اليوم تجد حفيدا واحدا حقيقيا لحتشبسوت أو إخناتون .. لن تجد هذا الحفيد إلا فى مقابر تل العمارنة فى تابوت سرق كل ما فيه .. ولم تبق الا الجنة ..

قال الرجل وهو يتنهد أسفا

- صحيح .. هذا مؤسف .. لم يبق لنا إلا تاريخ ومعابد وبرديات هيروغليفية ورشف الدكتور كرافت رشفة هادئة من فنجان الشاى

- لو كنتما هنا أمس الأحد .. لسعد أبواي بكما كثيرا .. فهما مثلى يحبان مصر كثيرا ويتنسمان أخبارها

قال الرجل الريفى

- واين هما يا ترى

- هما عجوزان لطيفان .. وهما فى هذه السن التى يصعب فيها التفاهم والتواصل بينهما وبين باقى الأسرة وحتى بينهما وبين بعضهما .. ولهذا انتهى بهما المطاف الى دار المسنين .. لكل منهما غرفة منفصلة وكل منهما يقطع النهار فى حل الكلمات المتقاطعة وشرب النبيذ ومشاهدة الى التليفزيون .. وهذا شأن الكبار هنا حينما تتقدم بهم السن

قال الرجل الريفى فى إستغراب

- والصغار

- بعد السابعة عشرة يذهب كل واحد وشانه .. لى ثلاثة اخوة وأخت رابعة تفرقوا فى القارات الخمس وتفرقت بهم المصائر .. الأخ الأكبر تزوج من امراة بوذية فى كمبوديا والاصغر قطعت ساقة فى حادث وهو يعمل بأرمان فى كلكتا والأخ الأوسط يشتغل فى مصنع سلاح فى جنوب افريقيا .. أما الأخت فقد تزوجت من فيتنامى ولم تنجب .. ثم افترقت عن زوجها .. وانجبت ولدا تكرس له الآن كل وقتها وتعمل مدرسة بيانو

- وزوجها

- انها لم تتزوج بعد الفيتنامى .. لقد انجبت ولدا بعد قصة حب وكما تعلم هذه الفورات العاطفية تنتهى الى لا شيىء وتبدأ المشاكل .. وهذه مسائل عادية تحدث الأن كثيرا

- عبر كروت الكريسماس وهدايا عيد الميلاد كل عام

ودخل الكلب وكانت حول بطنه ضمادة ..

واحتضنه الدكتور كرافت فى حنان بالغ .. وراح يربت على رأسه ويقبله

- المسكين .. عملنا له بالأمس رسم قلب كهربائيا وفحصا بالأشعة وبالأمواج فوق الصوتية واتضح أن عنده ورما سرطانيا .. وقام الجراح منذ أسبوع باستئصال الورم بنجاح .. صدقنى لقد حزنت من اجله كثيرا .. ولم اذق طعم النوم منذ أيام ..

قال الرجل الريفى وهو يقلب كفيه فى عجب

- هذا شيىء مؤسف فعلا .. هذا قدره وراح الدكتور يسأل صاحبنا ماذا يعنى بكلمة القدر .. وقال انه سمع الشرقيين يتحدثون كثيرا عن القدر .. ويلاحظ انهم يدسون هذه الكلمة فى كل شيىء .. وما أنت تدسها حتى فى شئون الكلاب .. صدقنى انا لا أفهم ..

وأخذ الرجل الريفى منكم فى إسهاب عن الأيمان بالله وبالقدر .. وان الله بيده ناصية كل الخلق وما من دابة الا هو اخذ بناصيتها .. سواء كانت بهيمة او كلبا أو حشرة .. وأنه ما من ورقة تسقط الا يعلمها .. ولا رطب ولا يابس الا عنده فى كتاب

وقال الدكتور كرافت فى براءة شديدة

- ولكن اين هو

- من

- الله الذى تقول

فسكت الرجل الريفى وانعقد لسانه دهشة من السؤال الفجائى ثم عاد يقول ببطء

- الله لا يقال عنه متى ولا أين .. لانه هو الذى خلق المتى والاين .. هو الذى خلق الزمان والمكان ولا يخضع لهما كما يخضع .. هو فوق الأين

فبدأ على الدكتور كرافت انه لا يفهم ولكنه قال فى احترام شديد

- الا يمكن ان نتكلم كلام اكثر وضوحا وواقعية .. الا يمكن ان تقول لى عن الله شيئا ملموسا .. صدقنى انى فى دهشة من أيمانكم العميق أيها المصريون .. إيمان بطول سبعة آلاف سنه .. أنه شيىء عجيب يدهشنى .. منذ سبعة آلاف سنة وانتم تبنون للموت ولا تعيشون للحياة ولكن لما بعد الحياة .. وكأنما أنتم متاكدون تماما من كل شيئا الا يدهشك هذا .. من أين لكم بهذا اليقين بأن بعد الموت شيىء .. لكم أتمنى ان أرى الله كما ترونه

فقال الرجل الريفى فى بساطة

- أنى لا أرى غيره .. أراه فى تفتح الزهرة وابتسامة الوليد واراه فى الصواعق وأرى مشيئته فى حركة التاريخ وارى يده فى قبضة الجاذبية التى تضم شمل المكون وتمسك بالمجرات وتحمل السموات بلا عمد .. واراه أقرب الى من نفسى بل أقرب الى من نطقى وأراه فى العماء خلف كل شيىء .. فى غيب الغيب .. لا يوصف ولا يحد .. سبحانه ليس كمثله شيىء وحاول ان يبحث عن كلمات تقول اكثر وتفصح أكثر وتجسد اكثر كلمات يعبر بها الفجوة الهائلة بينه وبين محدثة ولكنه لم يجد

كانت الفجوة كبيرة .. فجوة بين حضارتين

حضارة لا تؤمن الا بما ترى وتلمس وتحس وتسمع

حضارة مادية تبدأ من المادة وتنتهى الى المادة وتشيد من المادة معجزات وخوارق واختراعات وسفنا فضائية وقنابل وتصنع بها الدمار والعمار

وحضارة أخرى تواقة حالمة متطلعة الى الغيب تتصنت بالقلب والروح على ما لا يرى وما لا يسمع وتعبر المادة أبدا ودائما الى ما وراءها

وسكت الرجل الريفى ولم يجد كلاما يقوله ليعبر به الفجوة

واخذ يعيد ما قال وكأنما يخاطب نفسه

- أنى لا أرى غيره .. لا أرى الا الله سبحانه لا سواه ..

قال الدكتور كرافت

- أنى لا أملك الا ان احترمك .. ولكنى لا افهمك

وفى المساء فى الفراش كان الرجل الريفى يحدث زوجته وهو يخبط كفا بكف

- أرايت انه لا توجد أسرة لقد انفرط كل يوم .. البنت تحمل سفاحا والاخوة تفرقوا فى أركان الأرض ليواجه كل منهم مصيره بلا عون وبلا سند والاب والام منبوذان يعيشان وحيدين فى دار للمسنين ولم يبق الا الكلب أقاموه صنما بديلا يبذلون له الود والحب والحنان والعبادة التى خلت منها الحياة ويحاولون أن يخلقوا فيه المعنى والحكمة التى سلبوها كل شيىء .. ان كل ما تشاهدينه فى الفندق من تحيات ومجاملات وأداب مائدة وسلوك مهذب ولياقة .. كلها تعبيرات فارغة لا تدل على شيىء ولا تحتوى على مضمون .. انها مجرد حياة تلهث وراء متع لحظية .. ثم موت عدم .. ثم لا معنى ولا حكمة وأنما
عبث ..

ولم يعجب زوجته الكلام وأعطته ظهرها .. وقالت كالعادة

- لا تتعجل فى الحكم .. ولا تستخرج حكما عاما من لقاء عابر .. انظر حولك .. انك فى عالم كعرائيس الخيال ابهة ونظافة وأناقة وجمالا وعلما وصناعة

قال فى هدوء وقد أعطاها ظهره هو الآخر

- كل هذا يمكن أن ينهدم فى لحظة .. حينما تنهدم القيم التى تمسك به ..

كل هذا يصبح مثل النقش على الماء

قالت فى مرارة

- وهل عندنا فى مصر قيم .. هل عندنا أخلاق

- صحيح لقد أصابت عدوى الانحلال الكثيرين فى بلادنا .. وصحيح عندنا فساد .. ولكن ما زال عندنا أولو بقية من أهل الخير يعرفون الله ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقومون الليل ويسبحون النهار .. وهؤلاء هم عمد الأرض وأركان الدنيا يحفظ الله الدنيا من أجلهم وبدونهم لا يعود لها بقاء

قالت وهى ما زالت تنظر غربا وقد أعطته ظهرها

- بل أركان الدنيا هنا .. ولكنك ترفض أن تراها وأعمدة الحياة حولك ولكنك تنكرها .. وناطحات السحاب تنطح السماء وتصنع الأقدار للألوف .. والعقول الإلكترونية تدبر المصائر للملايين وما تسميه انحلال الأسرة هو روح الحرية .. والمغامرة ولكنك لا تريد ان ترى ولا تريد أن تغير من نفسك شيئا

قال وهو ما زال يعطيها ظهره وينظر شرقا

- نسيت أن صانع كل هذا العمار ترك نفسه خرابا .. وانه يوشك ان ينتحر وان يقتل نفسه بما صنعه .. وان عمد الدنيا فى نظرك وأركان الأرض توشك أن تنقض على بعضها البعض بالأسلحة الذرية والقنابل النووية .. وانهم لوثوا ما حولهم الفضاء والماء والهواء .. كما لوثوا عقولهم بالخمور والمخدرات ولوثوا أزواجهم بالكفر والجحود .. وان ما ترينه براقا حولك هو الغرور ومتاع الغرور وخيال اللحظة ونشوة اللمحة البارقة .. واقرئى التاريخ .. وانظرى خلفك .. بل تحت قدميك .. بل فى التراب تحتك حيث اندثرت أمم وامبراطوريات .. وحيث انتهى عماليق طاولوا الشمس وخرقوا السماء

ولكنها لم تنظر الى وراء ولم تلتفت الى التراب تحت قدميها وانما ظلت ناظرة مبهورة دائما الى غرب .. بينما ظل هو شاخصا الى الشرق الى مطلع الأنوار وقد أعطي كل منهم ظهره للآخر .. وبينهما خيط رفيع .. رفيع هو عقد زواج .. يوشك أن ينقطع