كيف تنفق موارده ومصارفها فهل كان تحديد جهة المتلقي سيغير من طبيعتها كغرامة؟
الحقيقة أنه لا عبرة على الإطلاق في تحديد طبيعة الغرامة للجهة التي سيؤول لها المبلغ المالي للعقوبة، وغني عن الذكر أن كثير من التشريعات العقابية تحدد عقوبات مالية تفرضها على أشخاص أو جهات ترتكب جرائم معينة في حق البيئة مثلاً أو مخالفات تخل بنظافة المدن أو سيولة وتدفق السير في الطرق العامة وتنص هذه التشريعات على تحديد الجهة التي ستتلقى الغرامة مثل جهاز حماية البيئة مثلاً فهل هذا التحديد يغير من طبيعة الغرامة ويحولها إلى تعويض؟!!.
ومع تسليمنا أن هذا القياس قياس مع الفارق لاختلاف الطبيعة الجزائية في القوانين الوضعية عن الطبيعة الجزائية في الشريعة الإسلامية، إلا أنه وبالرغم من هذا الفارق فإن أحداً من شراح وفقهاء القوانين الوضعية لم يقل أن الغرامة بهذه المثابة ستتحول إلى تعويض وليس في طوق أي أحد أن يذهب إلى هذا المنحى فالغرامة عقوبة تستمد طبيعتها من كينونتها وسببها ولا تستمد توصيفها أبداً من شخص أو جهة من استحقت له هذه الغرامة دولة أو مؤسسة أو جهة أو فرد.
مبحث.. الأدلة الشرعية العقليةوالنقلية على اختلاف التعويض عن الدية
أ.جماع ما سلف يتضح أن الدية ليست تعويضاً بأي صورة من الصور وفي أي وجه من الأوجه من قريب أو بعيد وهذا ما يدلنا عليه منطق العقوبة نفسها وكيفية فرضها حيث لا جدال على أن الشارع فرضها زجرا للجناة الذين يرتكبون جريمة القتل – سواء كانت عقوبة بدلية في القتل العمد أو أصلية في الخطأ – تتضامم معها عقوبة أخرى هي الكفارة المتمثلة في تحرير رقبة مؤمنة، والغرامة التي تفرض لجريمة هي عقوبة في المعنى والصورة وإذا جاز تقسيم الشريعة الإسلامية في مدونة قانونية لكانت الدية من نصيب قانون العقوبات بل إن المجتهدين من فقهاء الشريعة والقانون عندما قاموا بعمل مدونات للشريعة أفردوا مدونة للعقوبات وضعوا فيها الدية وكان من ذلك الكتاب الرائد للمستشار الدكتور/ عبد القادر عودة الذي وضع كتاباً كاملاً عن التشريعات الجنائية الإسلامية وأفرد فيه فصلا عن الدية وأحكامها ومقدارها... فإذا بحثنا في التشريعات التي تتعلق بالمعاملات فلن نجد أي ذكر للدية بل سنجد أن الفقهاء افردوا فصولاً للضمان (التعويض).
وقد أورد الدكتور/ علي صادق أبو هيف أوجه الاختلاف تفصيلاً فذهب إلى أن:
1. الدية عقوبة جنائية مقررة جزاءً للجريمة ولا يتوقف الحكم بها على طلب الأفراد كما أنها لا تقدر بالنظر إلى ما يتبع الجريمة من أذى وخسارة ولا تؤدى باعتبارها تعويضاً عما نتج عن الجريمة من ضرر جسماني ومادي وإنما كمقابل فقط للنفس أو الأعضاء التي أتلفتها الجناية بغض النظر عما قد يؤدي إليه ذلك التلف من الخسارة المادية للمجني عليه أو لورثته.
2. الدية لا تعوض غير الضرر المادي وهو الأذى الجسماني الناشئ عن الجريمة ولا تتناول الضرر المعنوي بينما يكون التعويض شاملاً لكل ما تؤدي إليه الجريمة من الضرر سواء كان معنوياً أو مادياً.
3. مقدار الدية ثابت يتساوى فيه الجميع ومقدار التعويض يختلف حسب مركز المجني عليه وحالته الشخصية وحسب الضرر الذي أصاب المضرورين ومقداره.
4. الدية تجب بالجريمة نفسها أما التعويض فلا يحكم به إلا إذا طالب به الطالب وأثبت حصول ضرر له من جرائها.
5. توزع الدية على الورثة حسب أنصبتهم أما التعويض فيقدر حسب الضرر الذي لحق المتضرر شخصياً.
6. لدائني القتيل استيفاء ديونهم من الدية المحكوم بها للورثة لأنها تعتبر تركة لمورثهم ولكن ليس لهم ذلك بالنسبة للتعويض لأنه محكوم به شخصياً لكل مضرور.
7. ليس لغير ورثة القتيل أي حق في الدية أما التعويض فيحكم به لمن أصابه ضرر وعلى قدر هذا الضرر.
8. الدية في غير العمد تدفعها عاقلة الجاني غالباً أما التعويض فيتحمله هو شخصياً.
ب. أما حجة أصحاب الرأي الذي يقول أن الدية هي تعويض فإنها وإن اتفقت وسلمت على أنها عقوبة في شق منها إلا أنها ذهبت إلى أنها تحمل أيضاً صفة التعويض لأنها تؤول إلى المجني عليه أو أوليائه بينما تؤول حصيلة الغرامة إلى الخزانة العامة وهذا الخلط الذي حدث لهؤلاء إنما مرده أنهم قارنوا بين قانونين مختلفين ونظامين غير متشابهين والمقارنة هنا في غير محلها والقياس مع الفارق بل إنه قياس فاسد.
(إذ تقتضي المقارنة عادة قدراً من التناسب او التشابه بين شيئين بقصد المفاضلة بينهما ولكن شريعة الله أسمى من أن تقارن بشريعة أخرى)
والنظام الجنائي في الشريعة الإسلامية له خصوصية فهو وثيق الصلة بالمنظومة الإسلامية كلها التي تحمل قدراً من التفرد والمغايرة عن باقي الأنظمة التشريعية الأخرى وبالتالي لا يجوز لنا إخراج أحد المفاهيم الجزائية من سياقها التشريعي الإسلامي ومقارنتها بمفهوم جزائي في نظام تشريعي آخر اللهم إلا لبيان أوجه المقاربة والاختلاف لا لإسباغ تسميات ومفاهيم النظام الجزائي الآخر على النظام الجنائي في الشريعة فالشريعة الإسلامية تأبى بطبيعتها أن تنضوي تحت لواء شريعة أخرى.
(والشريعة الإسلامية إذن لا تماثل القانون ولا تساويه ولا يصح أن تقاس به فطبيعة الشريعة تختلف تماماً عن طبيعة القانون)
فإذا انتهينا إلى تفرد النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية (وإلى أن هذا النظام مرتبط بالعقيدة وأنه أقام منهجاً عقابياً متكاملاً في الحياة الدنيا لردع الجناة والحيلولة دون استفحال الشر واستشراء الفساد)
فإننا نكون قد خلطنا الحابل بالنابل إن أخضعنا النظام الجزائي في الشريعة لمفاهيم وأطر الأنظمة الجزائية الوضعية وهذا مما يأباه العقل السليم.
ومع ذلك فإن أحكام كثير من العقوبات المالية المسماة غرامة في الأنظمة العقابية الوضعية كثيراً ما يخصص المشرع ـ وفقاً لما أسلفناه سابقاً ـ الجهات التي تتلقاها وهي غير الخزينة العامة للدولة ومع ذلك لم يقل أحد أن هذه الغرامات تحولت بتخصيصها إلى هذه الجهات إلى تعويض ما أو أنها خرجت من طبيعتها الجزائية بسبب هذا التخصيص.
مقارنة أخرى تنتهج اللزومالعقلي
أولا :من هو الملتزم بالدية:
تتبعنا آراء الفقهاء بخصوص مصادر الدية ومصارفها فكانت على النحو الآتي:
1. عند ابن حزم: الدية في الخطأ على عاقلة القاتل وفي العمد في ماله
2. عند مالك: الدية على القبائل فإذا انقطع الرجل من البادية إلى القرى فعلى قومه الذين في القرى فإن لم يكن فأقرب القبائل إلى قبيلته.
3. عند أبي حنيفة والشافعي: الدية على العاقلة أو على المقر في ماله (أي المقر بالقتل الخطأ)
4. عند الليث بن سعد: الدية على القاتل وعلى الذين يأخذ معهم العطاء ولا يكون على قومه منه شيء.
-5عند ابن شهاب وعروة: الدية في الخطأ على العاقلة وفي العمد على القاتل.
(وعلى هذا فتؤخذ الدية في القتل الخطأ جبراً من عاقلة القاتل وهم عصبته ويجوز الاستعانة في دية القتل الخطأ بالحلفاء تؤخذ منهم رضاءً وتطوعاً)
ثانيا : من هو المستحقللدية
تصرف الدية إلى أهل المقتول فقال تعالى في كتابه الكريم "ودية مسلمة إلى أهله"
(وأهل القتيل المشار إليهم في الآية هم أهله الذين يرثونه دون غيرهم)
ثالثا :من هو الملتزم بالتعويض
الملتزم بالضمان أو التعويض هو القاتل في القتل الخطأ أو العمد مصداقاً لقوله تعالى "كل نفس بما كسبت رهينة" وقوله "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" وقوله "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
وينهض التزام القاتل بالضمان (التعويض) سواء كان القاتل متسبباً أو مباشراً.
(فالضمان يؤخذ من المخطئ لجبر ما فات من مصالح حقوق العباد والضمان يجب مع الخطأ والعمد والجهل والعلم والذكر والنسيان وعلى المجانين والصبيان)
رابعا : من هو المستحق للتعويض (الضمان)
لا خلاف في الفقه على أن مستحق التعويض (الضمان) وفقاً لأحكام الشريعة هو كل من أصابه ضرر من إهدار المهدر أو إتلاف المتلف في النفس أو المال سواء كان من ورثة القتيل أو من غير ورثته فالعبرة هنا بالضرر ووقوعه وشخص من لحق به ونوعية الضرر الذي وقع.
خامسا : مقدار الدية
أما عن مقدار الدية في الإسلام فهو ثابت وفقا للآتي:
رأي الحنفية: الدية تجب في ثلاثة أجناس هي الإبل والذهب والفضة ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة
- رأي المالكية: الدية تجب على الإبل أما أهل الذهب فديتهم بالذهب وأهل الورق فديتهم بالورق
3. رأي الشافعية: الإبل هي الأصل في الدية بالغة ما بلغت يوم وجوب التسليم
4. رأي الحنابلة: الدية في الإبل والذهب والورق والبقر والغنم.
أما الفقهاء المعاصرين فقد جمعوا كل هذه الآراء بمصادرها وأسانيدها وانتهوا إلى أن قيمة الدية تعادل 4250 جرام من الذهب وعلى ذلك فإن الدية في الإسلام ثابتة القيمة
سادسا : موعد سدادالدية
المتفق عليه فقهاً أن الدية تسدد منجمة على ثلاث سنوات بحيث يسدد الثلث الأخير في نهاية العام الثالث وذلك كما حكم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون أن يخالفه الصحابة في ذلك.
سابعا : مقدار الضمان (التعويض)
يقدر الضمان على قدر الضرر الواجب جبره وما فات العباد من مصالح بسبب هذا الضرر ويدخل فيه الضرر الشعوري (النفسي) ويقدره الحاكم بحكومة عدل وفقاً لكل حالة على حدة دون أن يضع لها مقداراً ثابتاً.